يكفينا فخرا أننا فجرنا أكبر ثورة في العصر الحديث
يكفينا فخرا اننا أبناء المليون و النصف مليون شهيد
يكفينا فخرا أنه لم يرفرف علم الصهاينة يوما على أرضنا
يكفينا فخرا أننا أول من ينصر اخواننا و لم نساهم يوما في مجزرتهم
يكفينا فخرا أن أموالنا تاتي بتصدير ثوراتنا
يكفينا أننا لا نركع الا لله ربي العالمين ورؤوسنا لا تنحني الا في المساجد
ولتحيا الجزائر حرة مستقلة
هذه المحاور الثّلاثة الّتي من أجلها احتلّت فرنسا الجزائر، والّتي عبثت فيها وأفسدت منذ 1830 محاولة جعل المساجد كنائس أو ثكنات، ومن اللّغة العربيّة غريبة عن أهلها، ومن الوطن جزءا من فرنسا؛ فقام الشّعب الجزائري من حين إلى حين بمقاومات شعبيّة كردّ فعل بزعامة قائد يعرف هدف المحتل من خلال اطلاعه على التّاريخ الإسلامي من غزوات الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، والسّرايا التي قام بها الصّحابة والتّابعون، وحبّهم للشّهادة في قوله تعالى: "ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون".
ورحم الله شاعرنا الفذّ مفدي زكرياء:
ومروحة الدّاي لم تك إلاّ *** كما يستبيح اللّصوص الحراما
أبوتان ...هل سيدي فرج *** وإن طال ليل...أقرّ النّظامـا؟
فالمحور الأوّل الإسلام الذي يدين به الشّعب الجزائري وارتضاه لنفسه منذ الفتوحات الإسلاميّة مقتنعا به، على يد القائد الفاتح الصّحابي الجليل عقبة بن نافع الفهري، حيث قام الفاتحون في الأوّل بالأسباب المعروفة لإعلاء كلمة التّوحيد والدّخول في دين الله بعد تعريفه وتقديمه للسّامع بالدّليل العقلي، والنّقلي، فيختار إمّا الاستجابة وإمّا البقاء على دينه ويسلِّم الحكم للمسلمين وله ما لهم وعليه ما عليهم مع دفع الجزية لحمايته، وإن رفض الحلّ الأوّل أو الثّاني فتُعلن الحرب، وأجدادنا الأوائل رفضوا الانتماء إلى الإسلام رفضا قاطعا لعدم فهم هذا الدّين جيّدا لأسباب، كاللّغة مثلا، ولمّا اتّضح لهم المعنى الحقيقي للإسلام طلبت الكاهنة، وهي سيدة تلك المنطقة وأميرتها، من قومها اعتناق الإسلام، ولتبيّن حقيقة فهمها لهذا الدين العظيم أحضرت صبيّين أحدهما من بني قومها والثّاني من القوم الفاتحين، وأرضعتهما ليصيرا أخوين في الدّين والنّسب، وهذا الذي حدث، حيث آخت بين القومين، كما آخى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار، وأمرت أولادها بمساعدة الفاتحين. هذا الدّين غيّر أجدادنا الأوائل مائة و ثمانين درجة نحو عيشة أحسن، وجنّة عرضها السّموات والأرض أعدّت للمتّقين، نحو عبادة إله واحد لا شريك له.
وممّا جاء في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله و أن محمّدا رسول الله، و إقام الصّلاة، و إيتاء الزّكاة، و حج البيت، و صوم رمضان." وبهذا الدّين الرّاقي أعزّ الله تابعيه، بعدما كانوا في ضلالة، بشهادة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: " كنا أذل قوم فأعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة بغير الإسلام أذلّنا الله."
فالبنايات تحتاج إلى أهمّ شيء، ألا وهو الأساس المتين والأعمدة الصّلبة، ثمّ إلى جدران بنوافذه وأبوابه، ثمّ إلى سقف، وفي النّهاية إلى مرافق البناية؛ أمّا دين الله فشبّهه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كالبنيان يحتاج إلى الشّهادتين وهما الأساس: الاعتراف بأنّه لا إله إلاّ الله، ولا معبود بحقّ إلاّ ربٌ عظيم هو الله الأحد، الفرد الصّمد، الموجود قبل الوجود، لا أسرة له ولا عائلة، ولا مثيل له، ولا شريك له، يأمر فيطاع وينهى فلا يُعصى،لقوله تعالى جدّه وهو أصدق القائلين:"لوكانا فيهما آلهة إلاّ الله لفسدنا " وهذه قاعدة كونيّة وبشريّة، لو وضعنا حاكمين أو رئيسين لفسد الحكم، وطمع المحكومون في الاصطياد في الماء العكر.
ويقول الله تعالى في السّورة الّتي تعادل ثلث القرآن الكريم :" قل هو الله الأحد، الله الصّمد، لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفؤا أحد ." وحتّى نفهم معنى السّورة، يجب معرفة أسباب نزولها، إذْ طلب نفر من اليهود من سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم من يكون هذا الإله؟ أمِن ذهب هو؟ أم من أي معدن؟
فأنزل الله تعالى قوله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم في سورة الإخلاص، ما تفسيره، يا رسولنا قل: لكفّار قريش ولغيرهم ممّن يأتي بعدهم أنّ الله تعالى أحدٌ أحد، وهي أدقُّ من واحد، وأنّه الصّمد الّذي يحتاج العباد كلّهم إليه، ولا يحتاج إليهم أبدا مهما اجتمعوا وتعاونوا، وأنّ الله سبحانه وتعالى لا أب له ولا أمّ كسائر المخلوقات، وزيادة على هذا لم يكن و لن يكون له أولاد ولا بنون، ولا كُفءٌ له، فهذه الشّهادة بالوحدانيّة لا تكون إلاّ من العاقل، والبالغ ذكرا كان أو أنثى.
أمّا الشّهادة بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم الّذي جاءنا بهذه المعلومات ما هو إلاّ رجل اصطفاه الله تعالى وأرسله للعباد كلّهم، بدءا بعبَدة الأوثان الذين لا دين لهم، وهو من صلْبهم يعرفونه حقّ المعرفة بالصّدق والأمانة، اللّتين افتقدتا في عهده، وأنّه مبشّرٌ بالرّسالة في الكتب السّماويّة على لسان عيسى بن مريم التي لم تمسّ بتحريف وهو محمّد المحمود في السّموات والأٍٍرض، يتيم الأب، وحين يظهر، تظهر معه المعجزات الكونيّة، وحين يقدّم نفسه على أنّه رسول آخر الزّمان للعالمين يُسَخّر الله له كلّ شيء وهي المعجزات الخارقة كالقرآن العظيم و الإسراء و المعراج...
وأنّه صلّى الله عليه وسلّم في مدّة وجيزة من عمره يؤسّس دولة إسلاميّة برنامجها الإيمان والعمل الصّالح والإخلاص فيه لله تعالى؛ حيث رَبَّى أتباعه على الأُخوّة والصّبر، و أنّه صلّى الله عليه وسلّم يعرفه السّابقون و اللاّحقون في قوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون." وقوله تعالى أيضا: "و رفعنا لك ذكرك." وأنّ حياته صلّى الله عليه وسلّم كلّها جدّ، وكلّ المؤمنين يصلّون عليه لقوله تعالى: " إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما."
وحين تعترف بالشّهادتين الخالدتين وهما مفتاح الجنّة وجب على الشّاهد بهما القيام ببعض الشّعائر منها الصّلاة وهي الصّلة بين العبد وربّه، وهي التي فُرضت في السّموات العلى لعلوّ شأنها، باستعمال الماء الطّاهر للوضوء، خمس مرّات في اليوم واللّيلة، عند استماع النِّداء من قِبَل المؤذِّن لأدائها في وقتها.
ولجمالها وحلاوتها وسعادة المؤمن بها سنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مستحبّات كصلاة الاستخارة وصلاة الخوف وصلاة الجنازة وصلاة الحاجة ناهيك عن النّوافل قبل أو بعد الصّلوات المفروضة.
فها نحن نصلِّيها، ونحُضُّ أبناءنا عليها، لأنّها كما قال الله تعالى: "إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون."
فهي تؤدّبنا وتعلّمنا الانضباط في حياتنا كما جاء في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلاّ بعدا. " فهي عبادة بين العباد والرّبّ سبحانه وتعالى.
أما الزّكاة فهي عبادة لله تعالى بين العبد الغني، والعبد الفقير لقوله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها، وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم." فعلى المسلم أن يجمع ماله من حلال في التّجارة أو الصّناعة و كلّما مرّ الحول على النّصاب الّذي تحدّده الهيئة الإسلاميّة، وجبت الزّكاة من نقود أو بهائم أو حبوب على فقراء المسلمين المحتاجين و قد ذكرهم القرآن العظيم بالتّفصيل في سورة التّوبة: "إنّما الصّدقات للفقراء و المساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السّبيل فريضة من الله والله عليم حكيم. "
وهذه العطيّة السّنويّة لو فقهها أغنياؤنا اليوم ما بقى الفقراء يجْرون وراء لقمة العيش عند أبواب المساجد، و ما خرجت معظم النّساء يعملن في ميادين لا تليق بهنّ أو في المحرّمات، وهذه الزّكاة تقدّم كاملة لصاحبها ليقوم بمشروع تجاري يُخرجه من الفقر، ومدّ اليد لتكون السّفلى حتّى يفتح الله عليه، وبعدها يؤدّي بدوره الزّكاة لغيره وهكذا نكون قد قضينا على الفقر بضربة قاضية كما حدث في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز وهو خليفة على أمّة بكاملها من المشرق إلى المغرب حيث لم يوجد في عهده من يحتاج إلى الزّكاة؛ و التّاريخ يشهد بذلك. وهناك زكاة الفطر تؤدّى كلّ سنة بعد الانتهاء من صيام شهر رمضان المبارك، يقدّمها كلّ ربّ عائلة حسب عدد أفرادها للمحتاجين ليفرحوا بالعيد السّعيد، ولا ننسى من حين إلى حين أن نتصدّق على المتسوّلين والمحتاجين بالهبات، والصّدقات والهدايا، حتّى يكون المجتمع الإسلامي متماسكا يشدّ بعضه بعضًا.
والويل لمن لم يؤدِّها كما جاء عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين أعلن حرباً لا هوادة فيها ولا هزل على مانعي الزّكاة، وهو الذّي قال كلمته المشهورة:"لأقاتلنّ من فرّق بين الزّكاة والصّلاة، ولو كانوا يؤدّون عقالَ بعير لرسول الله." وهذا عقاب الدّنيا، أمّا عقاب الآخرة فَقوله تعالى:" والذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا يُنفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم يوم يُحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون."
والحجّ لمن استطاع إليه سبيلاً ماديّا أو معنويّا، قال الله تعالى:" وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق، ليشهدوا منافع لهم. "
وهو الذّهاب إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحجّ، وفيه يلتقي المسلمون ببعضهم، جنسيّاتهم متنوّعة، غنيّهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، ضعيفهم وقويّهم، حاكمهم ومحكوموهم بلباس واحد، وكأنّه في يوم الحشر، فيطوفون حول الكعبة الشّريفة التّي شرّفها الله تعالى بالفتح الإسلامي، وطهَّرها سيد المرسلين وآخر النّبيئين صلّى الله عليه وسلّم وصحابته رضوان الله تعالى عنهم أجمعين من الأصنام، ويتذكّرون أوّل مجيء إبراهيم وزوجه هاجر بولدهما إسماعيل وهو صبي بواد غير ذي زرع ما فيه مرافق للحياة غير السّماء و الأرض، لا ماء ولا زرع و لا شجر: "ربّي إنّي أسكنت من ذريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم." بأمر من الله تعالى كما قالت زوجه: أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت بكلّ ثقة: إذن لن يضيّعنا.
فغاب إبراهيم عليه السّلام عن الأنظار، وراحت الأمّ تسعى بين جبلي الصّفا والمروة حتّى انفجرت بأمره تعالى عين من الماء، تسيل إلى يومنا هذا، يشرب منه الحجّاج الميامين، ويغتسلون، ويأخذون منه وهم راجعون بعد أداء فريضة الحجّ للأهل والأقارب والجيران والأصدقاء ليشربوا منه جرعة كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم :" ماء زمزم لما شُرب له." و للإشارة فقط يقول الإمام الشّافعي: "شربناه للعلم فأوتيناه، فيا ليتنا شربناه للتّقوى."
ويتذكّرون إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبيّنا السّلام، وهما يبنيان أوّل بيت لله للعبادة، لقوله تعالى: "إنّ أوّل بيت وضع للنّاس للذي ببكّة مباركا وهدى للعالمين. "
وحين يعود الحجّاج إلى ديارهم، يشتاقون للعودة، ويشوّقونها لغيرهم، فيهيّئون أنفسهم للعمرة؛ لأنّ العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجّ إلى الحجّ ، والجمعة إلى الجمعة كذلك، فيا له من دين عظيم من ربّ عظيم، جاء به نبي عظيم صلى الله عليه و سلّم.
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين:" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا." وقال أيضاً: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين."
قال أحد اليهود لعمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: لو علينا نزلت معشر يهود لاتخذنا يوم نزولها عيدا؛
لذلك تمسّك به شعب الجزائر المسلم بالرّغم من اعتداء الاحتلال الفرنسي الحالك حوالي قرن ونصف أو يزيد وما بدّلوا، وما نافقوا رافعين شعار الإسلام ديننا أمام الاحتلال الهمجي لقوله تعالى :" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا ".
أمّا الصّوم فهو عبادة خاصّة بين العبد ونفسه لله تعالى، لا يعلم بذلك إلاّ الله العليم الخبير، لِمَا جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: "كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّيام، فإنّّه لي وأنا أجزي به."
قال الله تعالى: "يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون."
ومدّة الصّيام شهر كامل بالحساب القمري الموافق لشهر رمضان في السَّنة، لقوله تعالى: "شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشّهر فليصمه. "
وهو الامتناع عن الأكل والشّرب وغيره من الملذّات والشّهوات من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، مع أداء الصّلوات الخمس والنّوافل والقيام بواجب العمل أثناء النّهار كسائر الأيام، وعند أَذان المغرب يفرح الصّائم فرحته الأولى بالإفطار والدّعاء المستجاب مع عائلته وأسرته، والثّانية بلقاء ربّه لقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: "للصّائم فرحتان، فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربّه."
ثمّ حين يؤذن لصلاة العشاء وتُصلّى تردِفها صلاة التّراويح، عشر ركعات مثنى، مثنى كلّ يوم، وبعد شهر رمضان يفرح الصّائم بعيد الفطر، فيُتبعه بستّة أيّام من شهر شوال، ناهيك عن صيام التطوّع إتباعا للرسول صلّى الله عليه و سلّم ،منها الأيّام البيض، والاثنين والخميس، ويوم عرفة، والتّاسع والعاشر من شهر محرّم؛ وتقبّل الله منّا صيامنا و قيامنا بمزيد من الأجر والثّواب.
وحتّى يقضوا على الإسلام كان عليهم القضاء على اللّغة الّتي جاء بها هذا الدّين ألا وهي اللّغة العربيّة الّتي عجز الاستدمار أمامها بل العالم كلّه حين وجدها تفرض نفسها حيثما وُجد العلم، فهي الّتي نطق بها قوم رسول الله صلى الله عليه و سلّم وكانوا يتباهون بها في أشعارهم و كلامهم من حيث المصطلحات و المرادفات و الأضداد و المعاني حتّى جاء كلام رب العالمين معجزة على لسان رسوله الأمّي محمّد صلّى الله عليه وسلّم المتمثّل في القرآن الكريم. وعليه وجب على أبطال ثورتنا المجيدة أنْ يقدِّموا أنفسهم فداء لهذا الدّين في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله.
والمحور الثّاني اللّغة وهي من مقوّمات الشّخصيّة الوطنيّة لأيّ أمّة، فإنْ حافظوا عليها وتكلّموا بها باستعمالهم لها في حياتهم العمليّة يحافظوا على هويّاتهم، وإن أهانوا لغاتهم واحتقروها وتكلّموا بلغة الاستدمار فقد انسلخوا من جلدتهم، وأصبحوا كما جاء عن الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: المغلوب مولع بإتّباع الغالب.
وما قام به الجنرال شوطان سنة 1938م بتقنين منع تدريس اللّغة العربيّة بوطننا، إلاّ لنكون تبعا لهم، ومولعون بهم؛ وهذا ما لاحظناه بعد الاستقلال فقد تأسّست جمعيّات لمحو الأمّيّة بتدريس اللّغة العربيّة، لو لا التّدخُّل السّريع لمعلّمي جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين مباشرة بعد تأسيسها، والتي فتحت مدارسها في المُدن والقرى والمداشر لتعليم اللّغة العربيّة، وعلوم الشّريعة، من فقه وتوحيد وتفسير للجنسين كبارا وصغارا، باللّيل والنّهار، فنجحت جمعيّة العلماء في إبقائها بنسبة كبيرة جدّا، ممّا يحزُّ في نفوس الأعداء.
وإذا رجعنا إلى الوراء، واستنطقنا تاريخ الجزائر العريق، -لأنّ الأمّة التي لا تاريخ لها، فلا حاضر لها، ولا مستقبل- يوم دخل الفاتحون لنشر الإسلام، علّموا النّاس اللّغة العربيّة حتّى تسهل عليهم عمليّة الاتّصال بينهم، ولحفظ القرآن العظيم والسّنّة النّبويّة الشّريفة، والجميل فيهم أنّهم أبقوا على اللّغة الأمازيغيّة، وعاداتهم وتقاليدهم ما لم تعارض الشّريعة الإسلاميّة، أو تخالف العقيدة السّمحة، وأُعجب القوم باللّغة العربيّة لسهولتها ومرونتها ،كالبحر الواسع والعميق الزّاخر بالغرائب والعجائب. وعليه يقول الشّيخ العلاّمة عبد الحميد بن باديس: (أنا أمازيغي عرّبني الإسلام)؛ ومثلها قال فضيلة الشّيخ محمد الغزالي رحمة الله عليهما: (أنا من الفراعنة عرّبني الإسلام).
وللدّفاع عن اللّغة العربيّة قامت جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين بتأسيس جرائد وطنيّة، منها الشّهاب والمنتقد والبصائر، بأقلام عربيّة نزيهة، ممّا جعل أبناءها يحافظون عليها بتدريسهم القرآن العظيم مع تجويده و تلاوته بالأحكام، وتعلّم النّحو والقواعد والصّرف والإملاء والخطّ، وعلى ذكر الخطّ فاللّغة العربيّة الوحيدة التي تمتاز بأنواع من الخطوط الجميلة وزخرفاتها، كالخطّ الفارسي والرّقعي والدّيواني والنّسخي والكوفي، وهي الوحيدة التي تبتدئ من اليمين إلى اليسار كتابة، وفي آخر السّطر لا تقطّع كلمتها كاللّغات الأجنبيّة، وهي الوحيدة التي تمتاز بحرف له مخارجه الخاصّة به فقط ألا وهو حرف الضّاد؛ ولذلك سمّيت لغة الضّاد.
كما أنّ لها ثمانية وعشرين حرفا، ولو جمعنا بعض الحروف منها نكوّن كلمة ذات معنى، ولا ننسى المدود، والشّدّة، وبحور الشِّعر وقوافيه...
أيّتها اللّغة العربيّة حُقّ لك أنْ تفتخري وتعتزّي بنفسك بين اللّغات، وأنْ يجتمع الحسّاد والحاقدون لمعاداتك، ومحاربتك، فأنت التي نناجي بك ربّ العزّة باللّيل والنّهار، وبك نزل القرآن العظيم هداية للعالمين، وحقّ لي أن أفتخر بالانتساب إليك وأقول أنا عربي، وأن يُقتبس من اسمك ليسمّى ويلقّب إخواننا بالعربي، كالشّيخ الشّهيد العربي التّبسّي، والشّهيد البطل العربي بن مهيدي اللّذيْن عشقاك حتّى النّخاع، وماتا في هواك، لتبقى العربيّة لغتنا.
أمّا المحور الثّالث والأخير فهو الوطن الذي يقول عنه شيخُنا الفاضل ابن باديس إنّه ينقسم إلى ثلاثة: الوطن الصّغير، والوطن الكبير، والوطن الأكبر.
فالوطن الصّغير يتمثّل في البيت العائلي، يتعلّم فيه الحبّ ودفأه، وطاعة الوالدين، واحترام الإخوة، والأقارب، والجيران، وعلاقته بالمجتمع، ويتهيّأ منذ المهد للوطن الكبير، وهو الوطن الذي يعيش فيه بحدوده جغرافيا، ورايته التي تُعبِّر عن شخصيّته، ونشيده الذي يعتزّ به شعبه، فيعلّمونه لأطفالهم، ويدرّسونه في المدارس من أجل استعداده للوطن الكبير.
أمّا الوطن الكبير فننطلق بعون الله وتوفيقه من مقولة الإمام الهمام عبد الحميد بن باديس رضي الله تعالى عنه وأرضاه
حبّ الوطن من الإيمان).
لقد عاثت فرنسا في أرضنا فسادا كبيرا، وأهلكت النّسل والحرث، بشهادة فضيلة الشّيخ البشير الإبراهيمي آنذاك في آثاره الجزء الثّاني، الصّفحة ستّة وستّين وأربعمائة: (إنّ باريس هي منبع شقائنا.. فهيهات أن نصفح عن باريس، أو نُصافحها.) وكانت سببا مباشرا في تأخّرنا، حتّى أنّها اختلقت قضيّة الجهويّة والعنصريّة، ليهتمّ المواطن الجزائري بهما، ثمّ يخلو الجوّ لفرنسا لما جاءت عليه، لكن لن يكون لها ما تريد، وقد تعلّم أسلافنا حبّ الوطن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كيف لا وقد أحبّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وطنه مكّة؛ إذ التفتَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى مكّة وبكى، حين أخرجه قومه، فقال: "إنّي لأخرج منك، وإنّي لأعلم أنّك أحبّ بلاد الله وأكرمها على الله، ولو لا أنّ أهلك أخرجوني ما خرجت."
وفي رواية لابن عبّاس أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: "ما أطيبك من بلد، وأحبّك إليّ، ولو لا أنّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك." والقائل صلّى الله عليه وسلّم عن جبل أُحُد: "أُحُد جبل يحبّنا ونحبّه."
وهذا الوطن الذي نعيش فيه أحرارا، وندين بدينه، ونحترم قوانينه المستمّدّة من الشّريعة الإسلاميّة، يجب أن نعمل جاهدين فيه بالبناء والتّشييد، أكثر فأكثر، كما قال الشّاعر الحكيم:
إنّا وإنْ كرمت أوائلنا *** لسنا على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا *** تبني ونفعل فوق ما فعلوا
وأن نحميه لنحيا فيه سعداء أو نموت شهداء، حتّى إذا جاء أبناؤنا قالوا عنّا: (غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون.) وأن نمثّله أحسن تمثيل في الخارج أمام الصّديق والعدوّ، باحترام رموزه، والدّفاع عنها حتّى الموت، وهنا يبيّن لنا فضيلة الإمام ابن باديس حقيقة الانتساب للوطن: "إنّما ينتسب للوطن أفراده الذين ربطتهم ذكريات الماضي ومصالح الحاضر وآمال المستقبل، والنّسبة للوطن تُوجب علم تاريخه والقيام بواجباته من نهضة علميّة واقتصاديّة وعمرانيّة والمحافظة على شرف اسمه وسمعة بنيه، فلا شرف لمن لا يحافظ على شرف وطنه ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه".
أمّا من خان وطنه، فلابُدّ من اقتلاعه من جذوره المزيّفة، إن كان له أصل، لقول رائد النّهضة الوطنيّة الشّيخ عبد الحميد بن باديس في قصيدته الرّائعة، التي جمعت بين حبّ الدّين والوطن ، بعد مائة سنة من عمل فرنسا التّاتاري:
شعب الجزائـر مسلـم *** وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب
واقلـع جذور الخائنين *** فمنهـم كـلّ العطب
وإذا هلكـت فصيحتي *** تحيا الجزائر والعرب
وكذلك قول الأستاذ الثّائر بالشّعر الأستاذ مفدي زكرياء:
بُناة الجزائر صُنوا الشّباب *** ولا تأمنوا في الشّباب الذّئاب
ومن أراد أن يعرف تاريخ الجزائر، وكأنّه يعيشه ويحياه، فليقرأ كتاب الشّيخ الفاضل مبارك بن محمد الميلي، في جزأين بعنوان: (تاريخ الجزائر في القديم والحديث.) و(تاريخ الجزائر) للأستاذ الفاضل عبد الرّحمن الجيلالي، و(إلياذة الجزائر) لشاعر ثورتنا المجيدة و صاحب النّشيد الوطني (قسما) الأستاذ مفدي زكرياء.
والوطن الأكبر سيأتي آليا، إنْ آجلا أو عاجلا، وهو وحدة الأمّة الإسلاميّة التي ينشدها كلّ مسلم، كما كانت قديما، يهابها الأعداء من بعيد لأنّ دينهم الإسلام ولغتهم العربيّة مع الحفاظ على اللّغات الأخرى، لأنّها آية من آيات الله عزّ وجلّ، كالأمازيغيّة، والفارسيّة، وغيرها، ولأنّ وطنهم واحد موحَّد، عاشوا فيه في أمن وأمان، حيث شُوهِد الذّئب يرعى مع الغنم، في عهد خلافة عمر بن عبد العزيز، لو لا الرّواة الثّقات لقلنا هذا مستحيل، ولا يُشاهد في السّينما. وليست كوحدة الدّول الأوربّيّة المزيّفة، التي ما اجتمعت إلاّ علينا، ولن يفلحوا أبدا، لأنّ تاريخهم يشهد عليهم أنّهم ما اجتمعوا أبدا من أجل الوحدة، وإنّما ليكيدوا لبعضهم على جماجم المسلمين، لقوله تعالى: "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى."
ولم يهنأ لهم بال، ولم يستقر لهم حال حتّى قضوا على الوطن الأكبر سنة 1924م، وهؤلاء الجُناة ما هم إلاّ من سلالة الطّغاة الجبابرة الحاقدين على الإسلام وأهله، ومن التّلامذة المخلصين لأبناء القردة والخنازير، الوارثين العداوة لتشتيت شمل المسلمين، والتّشويش على من جعل الله أمر الأمّة بأيديهم بالكذب، ويختلقون بينهم أسبابا شيطانيّة ليُبقوا على فُرقتهم، ولا بمجرّد التّفكير في آليات الوحدة، لأنّها تعود عليهم بالحسرة، وسوء المصير، وهذا يعلمونه جيّدا، فقد أعطوا العهد لأسلافهم أن لا يُغمض لهم جفن، ولا يستريح لهم ضمير حتّى يفرقوا ليسودوا؛ فهم ممّن يقتلون القتيل ويمشون في جنازته.
وقد أوصانا ربُّنا وحذّرنا منهم فقال عزّ وجلّ: "ولن ترضى عنك اليهود والنّصارى حتّى تتّبع ملّتهم."